المجزرة و الصراع على المتوسط
هكذا
كانت الحروب الكبرى تندلع عبر التاريخ، وهكذا كانت الامبراطوريات تتصارع
على خطوط الملاحة والتجارة والنفوذ. وليست الصدفة وحدها هي التي جعلت
البحر الابيض المتوسط والقسم الشرقي منه ساحة معظم هذه الحروب، ولا
الجغرافيا وحدها هي التي اختارته ليكون المقياس الاهم لهيبة معظم تلك
الامبراطوريات.
قد
لا يكون ما جرى أمس في شرقي المتوسط صراعا إسرائيليا تركيا على النفوذ في
ذلك البحر وشواطئه المشرقية. لكن احدا لا يستطيع ان يتجاهل صفحات التاريخ
التي يقلبها الأتراك هذه الأيام بحثا عن مكمن الخطأ الذي تسبب بإبعادهم عن
منطقة حيوية لأمنهم القومي وازدهارهم الاقتصادي واستقرارهم السياسي، وهذ
الصفحات نفسها التي بعثرها الاسرائيليون وتلاعبوا بها على مدى قرن مضى،
حتى تمكنوا من اقامة الكثير من الحواجز المصطنعة بين الأتراك وبين العرب..
التي سقط معظمها برصاصهم الحي الموجه الى صدور تركية عارية.
ثمة
صراع تركي اسرائيلي يسير نحوه الجانبان بوعي كامل. حاولا تفاديه اكثر من
مرة. وبذلا جهودا حثيثة لتجنب الانتقال الى مواقع العداء التام،
والمتبادل. لكن من دون جدوى. فاتخذت تركيا قرارا رسميا وشعبيا متعمدا
بتحدي الحصار الاسرائيلي على قطاع غزة بتسع سفن تحمل طليعتها العلم التركي
وتنقل مواد إغاثة تركية، سبق لأنقرة على مدى عام كامل ان حاولت ادخالها
الى القطاع عن طريق البر.
واتخذت
اسرائيل قرارا صريحا بارتكاب المذبحة في صفوف المتضامنين الأتراك، لكي
تقطع الطريق على تركيا ونفوذها الذي يتسع يوما بعد يوم في شرقي المتوسط
بشكل خاص، وفي العالم العربي عامة.
وهي حتى الآن لم تعتذر من تركيا ولم تعبر عن الاسف لسقوط الضحايا الاتراك.
ربما
كانت المذبحة نتاج الرغبة في حسم نزاع جديد على شرقي المتوسط وما اذا كان
يمكن اعتباره من الآن فصاعدا بحيرة تركية ام إسرائيلية. لكن النتيجة
المباشرة هي أن الملاحة البحرية في تلك المياه المغطاة بدماء ضحايا اسطول
الحرية، اصبحت تحديا ومصدرا دائما للتوتر الذي يمكن ان يتخذ في اي لحظة
شكل مواجهة عسكرية تقليدية، او على الاقل شكل عمليات أمنية او حتى قرصنة
تشبه ما يجري في البحار القريبة من الصومال.. تستدعي في مرحلة لاحقة نشر
وحدات بحرية دولية للفصل وحفظ السلام.
أما
القول الرائج ان اسرائيل فقدت رشدها وتصرفت بطريقة جنونية مستفزة الى اقصى
حد للاتراك، فإنه يناقض الانطباع الشائع بأن الاسرائيليين استعادوا هويتهم
ووظيفتهم الطبيعية في شرقي المتوسط.
لم
ترتكب البحرية الاسرائيلية اي خطأ، لعلها نفذت التعمليات بدقة متناهية،
وبطريقة تذكر تركيا وسواها من حلفائها وشركائها العرب بأنها لا تزال
الدولة الاقوى والاقدر على ارتكاب مثل هذه الاعمال الوحشية من دون الخوف
من المحاسبة او المعاقبة.
ليس
الضحايا الاتراك الـ15 الذين سقطوا امس في المذبحة الاسرائيلية، اول
الشهداء الذين تقدمهم تركيا من اجل فلسطين، ولن يكونوا آخرهم. فالتاريخ
يشهد ان الاتراك كانوا على الدوام في صفوف المدافعين عن الارض الفلسطينية
وعن القدس، سواء تحت العباءة العثمانية، ثم تحت الراية اليسارية التي
حالفت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وصولا الى الراية الاسلامية
المرفوعة حاليا والتي تقود المجتمع التركي في المواجهة الجديدة مع
اسرائيل.. وتستقطب حماسة عربية استثنائية تكاد تتمنى الحرب، وتكاد تستقر
في موقع المشاهد او حتى الوسيط؟
"السفير"